نصرة بنعمار
على مر العصور، ظلّ المغرب نموذجاً استثنائياً للتنوع الثقافي والديني، حيث التقت على أرضه حضارات متنوعة، كلّ منها تركت بصمتها في نسج المجتمع المغربي.
كان المغرب، عبر تاريخه الطويل، فضاءً مفتوحاً للتفاعل العميق بين الهويات المختلفة، ما أسهم في بناء مجتمع غني بالتعدد وقادر على التأقلم مع مختلف التحديات التي يفرضها هذا التنوع.
لم يكن التاريخ المغربي مجرد سلسلة من الفترات الزمنية التي تضاف إلى بعضها البعض، بل هو تجربة حية، تعكس قدرة الشعب المغربي على احتضان التنوع وتحويله إلى عنصر قوة تعزز الوحدة الوطنية. في ظل التحديات المعاصرة المتعلقة بالتعددية، يبقى النموذج المغربي بمثابة مصدر إلهام يجسد إمكانيات التعايش السلمي والاحترام المتبادل بين المعتقدات والهويات المختلفة.
تعدّ التعددية الدينية من أبرز تجليات التنوع الإنساني، إذ تمثل أساساً لاحترام المعتقدات المتنوعة وتضمن للأفراد الحق في اختيار دينهم وممارسته بحرية تامة. لا تقتصر التعددية على كونها حقاً فردياً فحسب، بل تساهم في بناء بيئة اجتماعية ترتكز على حرية الفكر والتعبير، ما يسهم في إغناء المجتمعات فكرياً وروحياً. إنها تُعتبر محركاً حيوياً للإبداع والانفتاح، وبالتالي تشكل عنصراً مهماً في تطور المجتمعات.
تدبير هذه التعددية يتطلب تطوير نموذج حاضن للجميع وعقد مجتمعي يرتكز على مبدأ المواطنة ودولة الحق والقانون، حيث يتم تثمين ثوابت الأمة ورموزها وتاريخها ومؤسساتها، وصياغة قوانين عادلة تضمن حقوق جميع المواطنين، مما يساهم في تحويل التنوع إلى مصدر إلهام يغني النسيج المجتمعي ويعزز وحدته، بعيدًا عن النماذج التي شهدتها بعض المجتمعات، حيث أدى التنوع العقدي فيها إلى صراعات وانقسامات بسبب تدبير فئوي ضيق، لم يتمكن من تحقيق الوحدة المجتمعية لإغفاله مبادئ المواطنة والوحدة في التنوع كأساس للدولة الحديثة.
كما تعتبر حرية اختيار المعتقد حقا أصيلا ينبع من أعماق الكرامة الإنسانية، حيث تمكّن الفرد من تحديد مسار حياته الروحي والعقلي بحرية تامة، بعيدًا عن أي ضغوط أو إملاءات. إنها ليست مجرد حق، بل هي شرط أساسي للنمو الداخلي والارتقاء بالذات. عندما يُمنح الإنسان هذه الحرية، يُفتح له المجال لاكتشاف المعنى العميق لحياته، ويصبح قادرًا على التعبير عن قناعاته دون خوف أو قيود.
في مجتمع يحترم هذا الحق، يُمكن للأفراد أن يعيشوا بتنوعهم، مع اختلاف معتقداتهم ورؤيتهم للحياة، في تناغم يجسد أسمى قيم التسامح والاحترام.
هذا النوع من الحرية لا يُعتبر رفاهية، بل هو الأساس الذي يبني مجتمعًا قويًا، قادرًا على تجاوز الخلافات والتحديات. لأن اختيار المعتقد هو أكثر من مجرد قرار؛ إنه التعبير الأصدق عن الإنسان ككائن حر يبحث عن الحقيقة في أعماقه، ويعيش وفقًا لما يؤمن به.
في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، أصبح من الضروري أن تعمل المؤسسات والأفراد على محاربة الخطابات التي تزرع التمييز والكراهية، وضمان وضع قوانين تحترم حقوق جميع الفئات وتتكامل مع النسيج الوطني.
يتطلب ذلك أيضاً وضع آليات قانونية تحمي الحقوق الفردية وتعزز التعايش بين مختلف المكونات الاجتماعية. فضلاً عن ذلك، يجب أن تمتد هذه المسؤولية إلى تعزيز قيم العدالة والمساواة، التي تعدّ الأساس لتطور حضاري مستدام. علينا أن نعمل على بناء علاقات اجتماعية تقوم على أساس التعددية والاحترام المتبادل، مع الحفاظ على الهوية الوطنية وتوطيد قيم المواطنة، بما يضمن أن يصبح المجتمع شريكاً فاعلاً في تطبيق هذه المبادئ على أرض الواقع.
يستلزم هذا التحول، أيضاً، تحفيز الأفراد على المشاركة الفاعلة في بناء المجتمع، وذلك من خلال تطوير برامج تعليمية تعزز الوعي وتنمي الفكر النقدي، وتعمق الانتماء الإنساني. تلك البرامج تسهم في السعي نحو تحقيق العدالة المجتمعية والتضامن، وبناء عالم خالٍ من التفرقة على أساس الدين أو العرق أو الجنس. لا يمكن أن يتحقق هذا الهدف إلا من خلال العمل المشترك بين جميع مكونات المجتمع من أجل رفعة الوطن.
رغم التحديات التي تواجه الإنسانية في الوقت الراهن، فإننا نحتفظ بتفاؤلنا، لأننا على يقين أن هذه المرحلة التي تمر بها البشرية هي مرحلة انتقالية نحو عالم أفضل. التغيير قادم بلا شك، بفضل الإرادة الجماعية والوعي الراسخ بأهمية تبني سلوكيات وأهداف تضمن الانسجام والمساواة بين الأفراد. وباعتبار المواطنة الإطار الجامع لكافة الهويات، فإن تضافر الجهود بروح التعاون سيعزز هذا التوجه. كما هو الحال مع الجسد البشري، الذي لا يمكن أن يظل في صحة جيدة إلا إذا عملت كل أعضائه بتناغم، فإن المجتمعات لا يمكن أن تحقق التوازن والنمو إلا إذا تم احترام تنوعها وتوظيفه بشكل متكامل.