تعتبر جهة كلميم واد نون، إضافة إلى موقعها الجغرافي كحلقة وصل بين الأقاليم الجنوبية وباقي ربوع المملكة، من المناطق التي تزخر بموقع جغرافي متنوع ومميز وجمال طبيعي فريد من نوعه. يتراوح هذا التنوع بين الصحراء الساحرة والواحات الخلابة والشواطئ الساحلية الممتدة، بالإضافة إلى مراكز حضرية تاريخية وعصرية. وتتميز الجهة بتنوع ثقافة ساكنتها التي تقارب نصف مليون نسمة، مما يجعلها وجهة مناسبة ومثالية للجذب السياحي ومنصة طبيعية لمختلف أنواع الصناعات السينمائية لتصوير الأفلام والمسلسلات. ومع ذلك، ورغم هذه الإمكانيات الطبيعية والجغرافية الكبيرة، تظل الجهة بحاجة ماسة إلى الدعم الكافي للترويج واستغلال هذه الموارد بالشكل الأمثل.
القطاع السينمائي في الجهة، لحدود الساعة، مرتبط بوجود ثلاثة مهرجانات سينمائية تنظم بشكل سنوي في أقاليم الجهة.، هذه المهرجانات قاومت لتكون موعد سونيا بشكل منظنتم ومستمر لأكثر من عشر سنوات، ولم تتبع مسار مهرجان حمل حقائبه إلى مدينة خارج الجهة لأسباب سنذكرها في مناسبة أخرى. هذه المهرجانات الصامدة جعلت من كلميم واد نون عشقًا ومن السينما روحًا ينبض لتستمر، رغم غياب الإمكانيات اللازمة من ميزانية محترمة وبنية تحتية ثقافية، فإنها تواصل النجاح والتطور. تُنظم هذه المهرجانات بمجهودات محلية وذاتية ودعم محتشم، لكنها تناضل من أجل حقها فيى دعم محترم يلبي رغبتها الطبيعية وحقها المشروع في النمو والتطور لتحقيق تطلعات المهتمين بالسينما في المنطقة.
إن المهرجانات السينمائية، عكس ما يروج له محدودو الوعاء المعرفي او أهل الفكر الماضوي، تشكل قاطرة أساسية لتطوير السينما ودمجها في سياقها الاجتماعي والاقتصادي، وهي ركن لا مفر منه في دائرة الصناعة السينمائية. فبالإضافة لدورها الأساسي في تقريب الجمهور من الأفلام الحديثة وريبيرتوار السينما المغربية والعالمية، فهي فرصة للجمهور الواسع للقاء صناع الأفلام وتبادل التجارب. بل كانت المهرجانات السينمائية نقطة بداية أغلب صناع الأفلام عبر التاريخ. ودورها في الترويج للثقافة السينمائية وتقديم لقاءات مع مخرجين وتكوينات مهنية لفائدة الشباب هو ما أكده صاحب الجلالة في المراسلة الملكية السامية الموجهة للمشاركين في المناظرة الوطنية للسينما، حيث قال:
“ما فتئنا نولى عناية خاصة ورعاية موصولة للشأن السينمائي الوطني والعاملين فيه مع إيلاء اهتمامنا بكل المخططات الهادفة إلى حسن تأهيل هذا القطاع وتطويره بتوفير الدعم والرعاية للإنتاجات والمبادرات والتظاهرات السينمائية.” مقتطف من نص الرسالة الملكية السامية.
بالعودة إلى مشروع تنمية القطاع السينمائي في الجهة، فإنه من الصعب تحقيقه دون دعم شركات الإنتاج السينمائي والسمعي البصري العاملة في المجال الترابي للجهة وتمويل مشاريعها لإنتاج أفلام قصيرة ووثائقية حول المجال الترابي الجهوي، وإبراز تنوع إرثه الثقافي والتاريخي والطبيعي وغنى موارده. كما أن تقديم التسهيلات والتحفيزات للشركات الإنتاجية الوطنية والدولية لتصوير أفلامها بالجهة سيعزز من مكانة الجهة ويحويلها إلى قطب للاستثمار في المجال السينمائي وجلب الأفلام وكتاب السيناريو والمنتجين. يشمل هذا التحفيز تقديم التسهيلات اللوجيستية وتوفير الإقامة، خاصة أن بنيات الاستقبال السياحي في الجهة لا تزال في بداياتها وتحتاج هي الأخرى إلى دعم حقيقي وترويج بتدخل الجميع. وهذا يؤكد أن تنمية القطاع السينمائي مرتبط بشكل مباشر بمجالات أخرى قد تكون أكثر أو أقل أهمية.
إن المواقع السياحية الفريدة مثل قصر آسا، الزاك، تيغمرت، سواحل سيدي إفني بشواطئها الذهبية، وميراللفت بسبع شواطئها وقصبتها، وشاطئ لكزيرة وأقواسه، وأبواب سيدي إفني ومعماره التاريخي، ومركز كلميم وطانطان، وواحة إمتضي، وشاطئ الوطية، ومجال واد درعة، وقصبات بيزاكارن، ومنعرجان أكني إمغارن، وطريق لاخصاص وغيرها، بلا شك ستشكل مصدر إلهام للعديد من المخرجين والمنتجين وركنًا أساسيًا للصناعات السينمائية ومستقبلها في الجهة.
بالإضافة إلى كل ما تم ذكره، فإن جانب تأهيل المهنيين وتكوين الشباب يعد ركيزة لهذه الخطوة. وهو ما يتطلب المطالبة بإنشاء شعبة متخصصة في مهن السينما والسمعي البصري في مؤسسات التعليم العالي أو معاهد التكوين المهني، خاصة أن الجهة تتوفر على طاقات ومواهب خاضت تجارب فنية مسرحية وسينمائية لاقت نجاحًا كبيرًا ورفعت اسم المنطقة في أكثر من مناسبة على الصعيدين الجهوي والوطني. فهؤلاء الشباب يمتلكون طموحًا كبيرًا وحبًا للإبداع غير متناهي، لكنهم يواجهون دائمًا نقص الإمكانيات المادية والاعتراف بمواهبهم. وهنا سأكتفي بمثال واحد: منذ سنوات، قامت فرقة مسرحية من إحدى أقاليم الجهة بكل ما يمكن القيام به من أجل توفير وسيلة نقلهم للجنوب لتمثيل الجهة، ولكن، وللأسف، لم تجد أذنًا صاغية، فاضطرت إلى جمع التبرعات من الشباب ولجأت إلى اقتراض مصاريف التنقل من أسرهم… هذا مثال بسيط من عشرات النماذج التي تواجه في كل مرة أبوابًا مغلقة وعقولًا متحجرة، مما يعيق إبداعهم بل يقتل روح الوطنية في نفوسهم. والسبب؟ مؤسسات إسمنتية ومكاتب مثقلة بملفات لمشاريع إسمنتية. في كل مرة، يُفترض أن تُبلط الشوارع، فلا شوارع بُلِّطت، ولا عقول فُتحت…لذا، فإن توفير الدعم المناسب وبشكل عادل ونزيه يعد خطوة حاسمة في تطوير هذا القطاع. وهو ما حاولت تقديمه المهرجانات السينمائية بالجهة رغم قلة إمكانياتها، لأن اليد الواحدة لا تصفق، لكن بإمكانها أن تكتب وتدون وتبدع.
بالعودة للتدوين، كانت لي تجربة شخصية كمخرج في تصوير سلسلة أغاني أمازيغية حسانية في عدة مناطق من إقليم آسا. وهي مناسبة لتقديم الشكر للسيد رئيس المجلس الإقليمي الذي قدم الكثير لإنجاح هذه المحطة السينمائية. ما أبهرني حقًا وكانت هي الزيارة الأولى للإقليم بمناسبة انعقاد مهرجان السينما في المنطقة هو فضاءاته وتنوعه الطبيعي وغناه الثقافي، والإندماج الأمازيغي الحساني المثير للإعجاب. وبعد هذه التجربة، ساهمت في جلب بعض الأعمال السينمائية، وأهمها المسلسل التاريخي “غزي إنيمش” الذي تم تصويره في مدينة آسا و”تيغمرت”، وهو أول إنتاج تاريخي ومسلسل يصور بالجهة من إنتاج قناة العيون، بعدما كانت معظم إنتاجاتها مقتصرة على جهتين فقط. ومن بعد هذه التجارب، كان للمهرجان الدولي للسينما والبحر بسيدي إفني دور محوري في جلب عدد كبير من الأفلام إلى المنطقة، سواء كانت إنتاجات مغربية أو أجنبية. وساهمت هذه الإنتاجات في توفير فرص عمل موسمية هامة جدًا.
في النهاية، وبالرغم من أنني حاولت مرارا عدم الخوض في هذه الأمور بل قاطعت الكتابة والتدوين منذ مدة واكتفيت بالاحتفاظ بمسودات متناثرة في خزانة الحاسوب وأحيانا على أوراق ومذكرات ثقافية، فإني اضطررت لكتابة هذه الأسطر …كبداية وعودة جديدة للتدوين والنشر، لأن أحيانًا الصمت يعادله الموت، كما قال كبار المبدعين في الجارة الشرقية. واختصارًا، فجهة كلميم واد نون تمتلك إمكانيات كبيرة في مجال السينما، لكنها تحتاج إلى رؤية من أبنائها ومشاركة طاقاتها وشبابها في تدبير القطاع وضع إستراتيجية، لأن كنز المغرب الثمين في شبابه. وكما يقول المثل الأمازيغي: “أزرو ن تمازيرت، إسا إبنو يان”، وهو ما يعني: بحجر البلدة نبني المباني.
يتبع …
ميراللفت / أيوبا أوبركا
مخرج ومسير شركة إنتاج
عضو الفدرالية المغربية للفرق المسرحية المحترفة
مدير المهرجان الدولي للسينما والبحر بميراللفت -سيدي إفني
خريج الفوج الأول بالمعهد المتخصص في مهن السينما بورزازات