تُعد جهة كلميم واد نون من بين الجهات المغربية التي تزخر برصيد ثقافي متنوع وعميق، يعكس امتزاج روافد حضارية متعددة في نسيج اجتماعي متماسك ومتناغم. فهي أرض يلتقي فيها المكون الأمازيغي، في تعبيراته الصنهاجية والجزولية، بالمكون الحساني الذي يشكل بعداً صحراوياً أصيلاً، إلى جانب امتدادات أطلسية أضفت على الجهة زخماً ثقافياً وإنسانياً قل نظيره.
هذا التعدد الثقافي ليس فقط مؤشراً على غنى الهوية المحلية، بل يمثل فرصة استراتيجية لبناء نموذج تنموي جهوي قائم على التكامل والتثمين، وعلى تحويل الثقافة إلى رافعة للإشعاع المجالي وخلق الجاذبية الاستثمارية والسياحية والابتكار المجتمعي.
في عالم اليوم، لم تعد الثقافة مجرد موروث رمزي أو فنون شعبية تُعرض في المناسبات، بل أصبحت ركيزة أساسية في الاقتصاد الإبداعي، ووسيلة فاعلة لبناء المواطنة وترسيخ الانتماء وتحقيق التنمية المستدامة. وجهة كلميم واد نون تمتلك كل المقومات لتصبح قطباً ثقافياً متميزاً، بفضل ما تختزنه من فنون شفوية، وعادات احتفالية، ومعمار تقليدي، وأساليب عيش متجذرة في الذاكرة الجماعية.
إن تثمين هذه المقومات، ودمجها في السياسات التنموية الجهوية، كفيل بجعل الثقافة أداة حقيقية لخلق فرص الشغل، وتنمية الاقتصاد المحلي، واستقطاب السياحة ذات الطابع الثقافي، خاصة في العالم القروي والمناطق الجبلية.
ومن هذا المنطلق، تكتسي العدالة الثقافية أهمية محورية في جهة كلميم واد نون، حيث تتجاور وتتكامل هويات ثقافية أصيلة، تستحق جميعها فضاءً للتعبير والاحتفاء. فالمطلوب اليوم ليس تغليب مكون على آخر، بل صون هذا الغنى وتعزيزه كقوة توحيد لا تفرقة. ويُعد إقليم سيدي إفني نموذجاً لمنطقة ذات هوية أمازيغية راسخة، متمثلة في اللغة والعادات والبنيات الاجتماعية، ما يفرض العمل على تثمين موروثه المحلي بشكل يعكس روحه التاريخية وتعدده الثقافي، بعيداً عن محاولات تعميم رموز أو أنماط ثقافية لا تنتمي بالضرورة إلى خصوصياته الأصيلة.
إن الإنصاف الثقافي لا يعني العزل أو التقوقع، بل هو احترام لكل تعبير عن الذات الجماعية، ومنح كل منطقة إمكانات لتطوير ثقافتها المحلية داخل المشروع التنموي العام للجهة.
يكتسب هذا التنوع بعداً مضاعفاً حين نربطه بقضايا الشباب والمواطنة. ففي سياق التحديات التي تعرفها الجهة على مستوى فرص التشغيل والهجرة القروية وضعف البنيات التحتية، يمكن للفعل الثقافي أن يشكل منصة بديلة للشباب من أجل التعبير، والإبداع، والمشاركة في الفعل العمومي. كما أن الثقافة المحلية، حين يتم تقديمها بوسائل حديثة، يمكن أن تساهم في بناء وعي جماعي جديد، منفتح ومبني على الاعتزاز بالهوية المتعددة، وعلى تقبل الاختلاف والتعايش.
ولتحقيق هذه الأهداف، تبرز الحاجة إلى تبني رؤية ثقافية شاملة تقوم على مبادئ العدالة الثقافية، وتُراعي خصوصيات مختلف المكونات المحلية. ويستدعي ذلك العمل على إدماج الموروث الثقافي المحلي في البرامج التنموية الجهوية، عبر تثمين الفنون التقليدية والصناعات الثقافية. كما يقتضي دعم المبادرات الثقافية التي يقودها الشباب، وتشجيع المقاولات الإبداعية الناشئة، لما لها من دور في إحياء التراث بروح معاصرة. ويُعد تعزيز التعاون بين الجماعات الترابية والمجتمع المدني خطوة أساسية لتنفيذ مشاريع ثقافية تعكس روح الجهة وتنوعها، إلى جانب الاستثمار في التكوين والتأطير الثقافي لضمان استمرارية الفعل الثقافي وتطوير جودته. كما أن خلق فضاءات ثقافية متعددة التخصصات من شأنه أن يوفّر بيئة محفزة للإبداع والمعرفة، ويحوّل الثقافة إلى رافعة للتنمية والانتماء.
إن جهة كلميم واد نون ليست فقط بوابة للصحراء، بل هي فضاء ثقافي غني وفريد، يختزن ذاكرة شعوب وتاريخ تعايش طويل. والتحدي اليوم لا يكمن في اختيار أي مكون ثقافي لتمثيل الجهة، بل في كيف نحتضن هذا الكل في مشروع تنموي شامل، يجعل من الثقافة أساساً للعدالة الاجتماعية، ورافعة لجاذبية المنطقة، ومصدراً لفخر وانتماء أبنائها.
يوبا أوبركا
مخرج
مدير المهرجان الدولي للسينما والبحر بميراللفت
طانطان 24ماي 2005.